لمحات من تاريخ التعايش والتصارع بين الدروز والموارنة في جبل لبنان

مقالة نشرت في جريدة "اللواء الإسلامي" للأستاذ يوسف سليم نويهض

يوم الجمعة 21 جمادى الثاني 1404 ه

   منذ أن تمورن الأمراء الشهابيّون واللمعيّون الدروز، بتأثير الإرساليّات الكاثوليكيّة الدينيّة الغربيّة، وتدخّل قناصل الدول الأوروبيّة وسياسيّيها، في بلد يحكمه "الرجل المريض" هو السلطان العثمانيّ التركي، استقوى زعماء الموارنة وخاصّة الدينيّون منهم؛ وكان الأمير "بشير الشهابيّ" الذي انضوى تحت لواء "ابراهيم باشا المصريّ"، بن "محمد علي" والي "مصر" وسيّدها وسار في ركابه، قد ساعدهم وقوّى شوكتهم، على حساب شوكة الدروز الذين ناصبوا "ابراهيم باشا" العداء، وحاربوه وأوهنوا جيوشه في معارك "وادي التيم" و"حوران" وسواهما.

  وبالرّغم من اندحار الجيوش المصريّة وانهيار تابعهم الأمير "بشير الثاني"، الملقّب "بالمالطيّ" بسبب نفيه إلى جزيرة مالطة فإنّ استقواءهم لم يخفت، وطموحهم، في أن يتغلّبوا على الدروز ويقهروهم ويحلّوا محلّهم في إدارة الجبل وحكمه الداخليّ، لم يكبُ؛ وحبّ السيطرة والأثرة دفعاهم إلى تحدّي من كانوا أسياد الجبل، منذ مئات السنين، الجبل الذي اشتهر يومًا بجبل "ابن معن" و "جبل الدروز"، قبل أن يعرف الموارنة ترابه، لاعتقادهم أنّ الدروز قد هانوا وضعفوا من جرّاء الحروب والكوائن، إلّا أنّ هذا الاعتقاد لم يكن في محلّه وكان الدروز، على انقسامهم الحزبيّ وشبه القبليّ، يتّحدون عندما يداهمهم خطر الإذلال والإبادة كما حصل تمامًا في الحرب التي نعيشها اليوم، حرب الثمانينيّات من هذا القرن، وكانوا في معظم المناوشات التي جرت بينهم وبين المستغلّين والمستقوين، بعد زوال الإمارة الشهابيّة، هم المنتصرين على قلّة عَددهم وعُددهم سلاحهم، ولم تجد فتيلًا محاولات المصلحين لرأب الصدع وإعادة اللحمة بين الدروز والموارنة الأسرتين الروحيّتين العائشتين معًا على تراب الجبل اللبنانيّ، بسبب تصلّب قادة الأكليروس المارونيّ وتشبّثهم بمواقفهم المتعصّبة المتشنّجة المفتقدة إلى المرونة، إذ إنّهم ازدادوا تعصّبًا وإثارة لروح الحقد في نفوس أبناء دينهم، ضدّ الدروز، البناة الأوائل لهذا الوطن الصغير، ملجأ الشريد والخائف، كما أكّد ذلك ما سطّره قلم الكولونيل الإنكليزيّ في كتابه المعنون "الدروز والموارنة" ما بين عامي 1840 و 1860 وفي الصفحة 85 وما يليها، إذ أورد ما يلي مترجمًا ببعض التصرّف: "... الموارنة في المناطق المختلطة السكّان، هتفوا بملء حناجرهم:

   لا نستطيع البقاء والعيش مع الدروز، فإمّا القضاء عليهم وإمّا القضاء علينا أو نترك هذه المنطقة بالنزوح. وفي بعض الأماكن رفض النصارى الموارنة دفع ما يتوجّب عليهم للدروز من بدل إيجار السكن أو قيمة ضمان الأرض الزراعيّة (معظم أراضي الجبل كانت للمقاطعجيّة الدروز وشيوخهم) وبات التكلّم  مع الدرزيّ يحسب كإهانة، وعدّ اللقاء به خيانة تستوجب عقابًا.

   وأغدقت دولتا "فرنسا" و"النمسا" الأموال على البطريرك المارونيّ بقصد تخفيف الآلام والشدائد التي كابدها النصارى من جراء الحرب الأهليّة الأخيرة (حركة عام 1842)، فأوكل إلى رجال الدين توزيعها بدفع أربعة غروش باليوم لكلّ رجل، وبشراء سلاح وذخيرة، أيًّا كان مصدرهما، مع كامل معرفته أنّ أكثريّة الموارنة لن ينجرّوا إلى ساحة القتال أو الحرب، ولكنّ المقصود عنده بكلّ بساطة، القضاء على حقوق الدروز السياسيّة، وهذا ما يتقبّله غير المتحمّسين لخوض غمار النزاع المسلّح من أبناء الطائفة المارونيّة، طائفته، محوّلًا هكذا حرب إلى حرب دينيّة، لأنّ الدروز أعداء الصليب الكفرة، ينبغي أن يرحلوا عن البلاد!

   وإزاء مثل هذا التصرّف، لم يبق من ريب بأنّ ذلك كان أمل رجال الأكليروس المارونيّ، وهم يوقظون عواطف الحقد الطائفيّ ويشحنون نفوس أتباعهم بالحماس الدينيّ، ويدفعون الشعب المسيحيّ (المارونيّ) إلى الوقوف صفًّا واحدًا في كفّة واحدة ضدّ كفّة السيطرة والنفوذ التي كانت مائلة إلى "الدروز الذين يعملون جاهدين أيضًا للإبقاء على ميَلانها، وعدم التفريط بها أو السماح للنصرانيّة بأن تتبوّأ المركز الأوّل" تحت الحكم العثمانيّ.

البشيران الشهابيّ "والجمبلاطيّ":

   عقد اجتماع حافل حضره أكابر الشيوخ في "المختارة" مقام "سعيد باي جمبلاط" (ابن الشيخ بشير) في آخر كانون الثاني من عام 1845، دلّ على تحرّك الدروز وتنبّههم، على كونهم في أوقات السلامة، منقسمين إلى قسمين كبيرين متنافسين (غرضيّتين) تغذّيهما أهواء الغيرة المتبادلة؛ ولكن إذا ما انتابتهم مخاوف الخطر فإنّ هذه الأسرة الجمبلاطيّة تتحوّل توًّا إلى مركز كبير رئيسيّ يؤمّه الجميع للعمل والسعي إلى درء هذا الخطر، كما جرى في السنين الأولى من هذا القرن (التاسع عشر)؛ إذ كان سيّد هذا الدار ورئيسها، الشيخ "بشير جمبلاط" الذي كان الحاكم الفعليّ للبنان، فثروته العظيمة وأراضيه الفسيحة وأتباعه ومحازبوه الكثيرون، ليسوا فقط أبناء حزبه وجماعته، بل من الموارنة أنفسهم؛ كلّ ذلك جعل منه إنسانًا كبير النفوذ وافر السيطرة، وظلّ، لوقت مديد يشارك الأمير "بشير الشهابيّ" (كان الشيخ "بشير" السند الأوّل للأمير حتى يتبوّأ كرسي الإمارة، ضدّ ابن عم أبيه الأمير يوسف الشهابيّ) مشاركة متساوية في كلّ وظائف الحكم وإدارته، إلّا أنّ هذا الانسجام بين "البشيرين" ما لبث أن تزعزع، إذ إنّ الشيخ رأى بعين عقله وتأكّد له أخيرًا أنّ الأمير قلب له ظهر المجنّ، وانحاز انحيازًا بيّنًا إلى جانب الشعب المسيحيّ بشكل يهدّد النفوذ الدرزيّ. (هذا الموقف عدّه الشيخ انتهاكًا لحرمة الوفاء) ويقضي على تفوّق الدروز ويكسر شوكتهم؛ وعندئذ انقلب على الأمير وثار عليه ثورة مضرية مفتوحة وجرّد مقاتلين بأعداد غفيرة ضدّه، ومعه العديد من أركان الموارنة وأتباعهم، (كانت العصبيّة الحزبيّة لا تزال مستحكمة دون العصبيّة الدينيّة، قبل انكشاف تنصّر الشهابيين) ولكنّه مع كلّ ذلك، اندحر في ساحة المعركة؛ (كانت أسر درزيّة تقف بجانب الأمير أيضًا) بسبب نجدة جيش تركي، بعث به "الجزّار" الشهير والي "عكا"، لمساعدته بعد أن استنجد به، وتوارى الشيخ إلّا أنّه لوحق وقبض عليه وسيق إلى "عكا"، حيث سجن ومن ثمّ حكم عليه "الجزّار" وقتله (كان ذلك في عام 1823)، أمّا أبناؤه الثلاثة، وكانوا لا يزالون فتيانًا صغارًا فقد بقوا في منفاهم طوال تولّي الأمير "بشير" إدارة الجبل، ولمّا آبوا إلى المختارة وجدوا منازل جدودهم مدمّرة، فرمّمتها حكومة السلطان العثمانيّ في عام 1840، وأكبرهم سنًا هو"نعمان باي"، وبعد حرب 1841 الأهليّة ارتأى أن يلجأ إلى عزلة تامّة عاش فيها حياته الخاصّة وأصغرهم وهو "اسمعيل" قد أرسل إلى إنكلترا، ولكن بعد مكوثه فيها سنة واحدة عاد إلى الوطن وعقله تامّ الاضطراب ولم يفتأ بعد بضع سنين قليلة أن وافته المنية، وهو مصاب بخبل عقليّ لا رجاء بشفائه، ولم يبق من يحافظ على اسم وشهرة وثروة الأسرة الجمبلاطيّة سوى "سعيد باي" منفردًا.

الإنكليز والفرنسيّون:

   و"الباي" هذا، وكان قد شهد، وهو الفتى النشيط، الحرب الأهليّة الاخيرة، وقدّم البراهين على شجاعته وأظهر للملأ أنّه ذو طباع دمويّة شرسة، وهذه الطباع تلاءمت وانسجمت تمامًا مع طبيعة الدروز الشرسة والقاسية أيضًا ومنذ مطلع تمرّسه بالشأن العامّ، تأكّد من رعاية، وحماية الحكومة الإنكليزيّة، التي رأت في دعم سلطته ونفوذه، أسلوبًا، تتمكّن به من دعم الطائفة الدرزيّة، فتنال نفودًا سياسيًّا توازن به النفوذ الفرنسيّ لدى الموارنة؛ وفي خلال شهرين كاملين، لم ينقطع وصول وسفر مبعوثين إلى "المختارة" يحيون المداولات والمذاكرات السرّيّة، نهارًا وليلًا، ويحظون بأعلى درجات الضيافة التي يؤمّنها لهم المضيف، ويشاهدون بأمّ العين، وعن كثب، كيف أنّ ديوان "سعيد باي" يعجّ بالناس ويحيا بنشاط مستمرّ.

   أمّا الموارنة من جانبهم، فقد عقدوا اجتماعات للتشاور وبعثوا بأوامرهم، وبتصريحات طنّانة، مشجّعين النصارى على الاستعداد والتحضّر لساعة التجربة والامتحان؛ وكان الأمراء الشهابيّون أوّل المتصدّرين والقادة الأوّلين الساعين لهذه الوسائل، فعيّنوا مكانًا للقاء بلدة "عبيه" (اشتهرت في معركة الشحّار الأخيرة، شباط 1984) التي دعي إليها كلّ مسيحيّي المناطق المختلطة السكّان، وهناك، بعد التدارس والتذاكر، اتّخذوا قرار الحرب، مغامرين وغير مبالين بالأخطار الممكنة الحدوث والمترتّبة على هذا القرار، لأجل إعادة الأمير "بشير" القديم (كان قد نفي إلى "مالطة" بعد اندحار "ابراهيم باشا") كحاكم وحيد للجبل؛ وعندئذ تحرّك رجال الأكليروس المارونيّ يدعون بحماس إلى الحرب المقدّسة في كنائسهم وبيعاتهم، وقادوا بأنفسهم رجال رعيّتهم إلى الأماكن التي اتّفق على اللقيا فيها.

   أمّا الدروز، ووفقًا لتكتيكاتهم العاديّة أو بالأحرى وفقًا لاتّجاهاتهم، فزعموا أنّهم باتوا في وضع مشوب بالحذر والخوف من جرّاء هذه الإجراءات والمواقف المعادية لهم، وتوسّلوا إلى الترك للتدخّل وإيقاف رحى حرب مخيفة قد تكون كارثة؛ وإزاء هذا التوسّل من قبل الدروز، تحمّس قناصل أوروبا أنفسهم، ممتدحين تلك العواطف، مستحثّين قيادة الجيش التركيّ على التوجّه إلى الجهات التي قد تقع فيها صدامات؛ إلّا أنّ الأتراك لم يبد منهم غير التربّص والانتظار، بدون تدارك ما يمكن أن يحصل على أرض الواقع، إنّما أظهروا الرغبة المخلصة، في كلّ عبارة ردّدوها، بأنّهم سوف يوقفون إراقة الدماء، بتدخّلهم الفاعل النشيط واستخدام سلطتهم الحازمة، وشرعوا للحال في إرسال قوّاتهم ووضعها في أماكنها المحدّدة مع التزوّد بالأوامر والتعليمات التي تؤمّن مساعدة ودعمًا للدروز، وتعمل على دحر النصارى الذين حاولوا في أكثر من مناسبة، وعن سابق تصوّر وتصميم، زجّهم في لهيب النار.

   وفي شهر نيسان من عامّ 1845 هبّ أتون العاصفة التي كانت محقونة إذ قام الموارنة بهجوم عامّ على كلّ الارجاء الدرزيّة، وكان يقودهم في منطقة الشوف مطرانهم، ويده تمتشق صليبًا، بعد أن حصل على تخويل من الضابط التركي المعسكِر هناك والمتحفّز للهجوم.

   في الغارة الأولى تهاوى كلّ شيء أمامهم فحرقوا ودمّروا أربع عشرة قرية "درزيّة" واندفعوا حتّى بلغوا أسوار بلدة "المختارة" وهنا، وهم في أوج الانتصار، فوجئوا باندحار غير متوقّع لأنّ فيلقًا تركيًّا منتشرًا عند جبهة قصر "سعيد باي" صبّ رشقات من نيران بنادقه عليهم وأوقف زحفهم المشجّع بالغرور.

   وفي بلدة "عبيه" بالمقابل، وبعد معركة ضارية، واجه النصارى، بقيادة الأمراء الشهابيّين، انكسارًا كلّيًّا فحاصرهم الدروز في عقر قصرهم، وكان الجند التركي يراقب ساحة المعركة مراقبة المتفرّج الهادىء، وفي النهاية استسلم الأمراء كأسرى، وتدخّل الكولونيل "روز" (الإنكليزيّ) بنفسه وقادهم إلى بيروت.

   وجرت مناوشات في سائر أنحاء "لبنان" كانت نتائجها مشابهة لما جرى أخيرًا، والأتراك، في جميع الحالات، بدوا كأنّهم يعملون كاحتياطيّين للدروز، ولم تنِ "الحركات" في ختام الامر، أن عادت إلى ساحات بلدات الجبل، وكأنّ تاريخها القديم يعيد نفسه، فحرقت قرى ودمّرت أملاك نصارى هاربين لاحقهم دروز وجنود غير نظاميّين من الترك، يعملون فيهم نهبًا وتشويهًا وقتلًا، وهكذا ذهبت آمال المارونيّة بالتفوّق والسيطرة والنفوذ مع الريح، وخينت النصرانيّة نفسها وشتمت وأهينت.

   وتفتّقت مرّة ثانية، عبقريّة الدبلوماسيّة، في الأستانة العليا، عن خطّة تقضي بإرسال مندوب، يستطيع التخلّص من عناصر الشغب والتخريب التي تثيرها بشكل دوريّ، زوبعة الدسّ والغدر التركية المستندة إلى مطامع الأكليروس المارونيّ من جهة، وروحيّة الدروز الانتقاميّة من جهة آخرى، وكان هذا المبعوث "شكيب   أفندي" الذي أرسل إلى سوريا في أواخر عام 1845 مكلّفًا بمهمّة خاصّة، وبعد الاتّصالات والمباحثات المكثّفة والتشاورات والتداولات العديدة التي أجراها، تثبتت حكومة "لبنان" التي فكّر أن يبرهن أنّها قاعدة ثابتة وأساسًا صالحًا، وتأكّد هكذا مبدأ القائممقاميّتين وطبّق فعلًا، فكان لكلّ منهما محكمة خاصّة فيها ممثّلون لمختلف الطوائف، وفصلت بينهما حدود جغرافيّة، وحوفظ على حقوق الدروز الإقطاعيّة على النصارى المقيمين بين ظهرانيهم (وكرّست) ولكن مع حقّ هؤلاء الأخيرين في تعيين ممثّلين لهم لدى كلّ زعيم درزيّ حاكم، للحفاظ على مصالحهم، أمّا السلطات التركيّة فتقرر أن تعمل في "الجبل وتتصرّف من خلال القائممقاميّتين، وتستدعي قوّاتها وحدها في شؤون المصادرات وجباية الضرائب أو حفظ الأمن".

المطالبة بحاكم تركي:

   وبلغ تشاؤم نصارى "دير القمر" درجة اليأس من المستقبل، عندما وجدوا أنفسهم خاضعين لنير الشيخ الدرزيّ القاسي من آل "أبو نكد" والذي يدعمه الترك، بشكل سرّي، دعمًا لا حدود له، "وبالرّغم من وجود موظّف منهم يمثّلهم لديه، ولكن بالاسم فقط، فقد عمدوا إلى رفع عريضة طلبوا فيها من المسؤولين الترك أن يتولّى شؤونهم حاكم تركيّ فيها (دير القمر)، فأجيبوا إلى طلبهم؛ إلّا أنّ هذه الاجابة رأى الدروز أنّها موجّهة ضدّهم، فأثارت حفيظتهم وظلّت تحفر في قلوبهم، فلم يغفروها ولم ينسوها، وعاشوا سنين وهم ينظرون بعين الحسرة إلى إقطاعيّة جدودهم تضيع، وقد شاهدوها تنمو وتتقدّم إلى حدّ أنّ الطائفة المارونيّة فيها بلغت درجة عالية من الازدهار والثروة؛ غير أنّها لم تقدر، أن تشكّل حكومة إقطاعيّة بسبب فقدان الموارد فيها؛ وكلّما خطر وضعها المستجدّ ببالهم (بال الدروز) سُمع صرير أسنانهم، ولكنّهم صبروا على مضض، وظلّوا متربّصين منتظرين الوقت الذي قد يؤذن يومًا بالفرج".

   هذا غيض من فيض ممّا أورد هذا الكتاب الذي ذكر وهو يبيّن أنّ أحداث القرن الماضي و "حركاته" المأساويّة المخرّبة كبيرة الشبه بما هو حادث في هذا الربع الأخير من القرن العشرين الذي نعيشه: طائفة تريد دوام الاستئثار بالحكم اللبنانيّ والهيمنة عليه، فتضرب أو تحاول ضرب أو إبادة كلّ من يقف في سبيلها أو يجرّب انتزاع بعض امتيازاتها، وقد تحوّل لبنان إلى شبه مزرعة أو بقرة حلوب لها، مستعينة "بدولة" طارئة على هذا المشرق العربيّ وعدوّة له ومغتصبة بعض أثمن دياره، وبدول غربية أخرى طامعة بثرواته وطوائف تريد انتزاع بعض حقوقها، في هذه المزرعة، بانتزاع بعض هذه الامتيازات والتخلّص من الهيمنة الكامن وراءها الطمع المكروه الذي أوقفنا على واقعة الكاتب المؤرخ الانكليزي "شرشل" (شرشر بك)، مستقوية بحقّها مستعينة بدولة عربيّة تربطها "بلبنان" أواصر لا يمكن لعراها أن تنفصم، وبدول أخرى أيضًا لها مصالح تودّ تأمينها عندنا وايديولوجيّات تبغي نشرها.

   ولو تبصّر قادة السياسة في لبنان وحكّموا العقول وتراضوا، وتمتّعت كلّ طائفة بما هو حقّ لها وعدل، واطّرحوا الجشع والأثرة والمتاجرة بالدين الذي وجد في الأساس لخير البشر كافّة، لما تمكّن منهم لا الترك ولا الإنكليز ولا الفرنسيّون، في القرن الذي غبر، ولا الإسرائيليّون والأميركيّون وسائر الشياطين والأبالسة في هذا القرن، ممّا جرّ لبلادهم الويلات والمحن والخراب وعرّضها للانهيار فالزوال. فهل يثوبون إلى الرشد وجادة الصواب والحقّ؟ ويتعانقون بصفاء القلوب؟ ويقولون معًا: كفانا قتالًا، قبل فوات الأوان الذي لن ينفع فيه الندم ولن تجدي ليت.

                    يوسف س. نويهض